رائد النمس
" أرجو إرسال سيارة إسعاف لعائلة معمر في منطقة حي الجنينة " .
وقع صدى هذه الجملة على مسامع المسعف صالح معمر (31 عاما) عبر الهاتف في مركز إسعاف الهلال الأحمر الفلسطيني في رفح، كوقع الصاعقة، وهو على رأس عمله الإنساني.
كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا، بعد يوم حافل بنقل الإصابات و الشهداء، جراء القصف المتواصل على بيوت المواطنين في محافظة رفح. وقد شارك صالح زملاءه المسعفين في تقديم يد العون للمدنيين، ضمن الخدمات الاسعافية والانسانية التي يقدمها الهلال الاحمر منذ بدء الاعتداء الإسرائيلي على قطاع غزة.
هب من مقعده مرتجفا، اختلطت عليه كلماته المبعثرة، وهو يقول لزملائه: "هذا عنوان منزلي". التف حوله رفاق عمله، يحاولون التهدئة من روعه، وهم يهمون بالخروج السريع لمنطقة الاستهداف، متوسلين منه البقاء لحين ذهابهم إلى هناك ومن ثم إخباره.
إلا انه صمم على الخروج معهم في سيارات الإسعاف، حتى يتسنى له المساعدة في إغاثة المستهدفين. كيف لا وهو من يتفانى في العمل دوما، والآن يخشى أن يكون منزل عائلته هو المستهدف.
انطلقت سيارات الإسعاف تطلق صفيرها العالي، وصوت لصفير لم يكن أبدا أعلى من صوت صالح، وهو يدعو بالا يكون احد أفراد عائلته قد أصيب.
شعر بأن الدقائق الثلاث التي مرت عليهم حتى وصلوا الى المكان وكأنها سنوات طويلة. غطى وجهه براحة كفيه وهو يتمتم بكلمات مرتجفة وغير مفهومة.
وصلوا إلى المنزل، ليجدوا طائرات الجيش الإسرائيلي قد قصفت إحدى شرفات المنزل في الطابق الثاني. صرخ صالح: "تلك نافذة منزلنا".
ترجٌل من سيارة الإسعاف مهرولا، خائفا، مصعوقا من رائحة البارود ودخان الشرفة المحترقة.
احترق قلبه أيضا وهو يشاهد جثثا ثلاثة سقطت الى أسفل المنزل، جثا على ركبتيه يقلب الجثث الملقاة على قارعة الطريق، ثم شرع بالبكاء والعويل وهو يقول "هذا أخي محمد".
بيد مرتعشة وعيون ملتهبة امسك جثة أخرى وقال صارخا: "هذا أخي أيضا .. وذاك أخي الثالث".
لم يتمالك نفسه وانهار باكيا يحتضن ما تبقى من جثث أشقائه الثلاثة، الذين قصفتهم الطائرة وهم يتناولون وجبة السحور في شرفة منزلهم.
احتضنه زملاؤه، وشاركوه البكاء، وبكت ساعتها السماء أيضا. اختلطت دموع صالح بدماء أشقائه الثلاثة، الذي كان هو أكبرهم سناً يرعاهم واليوم يحتضن أشلاءهم.
طلب منه المسعفون أن يغادر المكان، وان ينقلوه إلى المستشفى بعد ملاحظتهم بأنه أصيب بحالة عصبية بالغة، إلا انه رفض ذلك، وبدأ يرفع جثث أشقائه على الحمالات الطبية ودموعه ترفض التوقف عن الانهمار.
واصل صالح عمله في سكون عصف بالمكان كله، حمل أشقاءه دون أن يتكلم، وصعد إلى جانبهم في سيارة الإسعاف، رافضا تركهم رغم صعوبة الموقف.
ظل يحتضنهم في سيارة الإسعاف لشعوره بأنه يودعهم الواداع الأخير، وقلبه يعتصر ألما وعذابا، فهو لم يراهم منذ خمسة أيام متواصلة بسبب تواجده في مركز الإسعاف لنقل المصابين و الجرحى.
المسعف صالح، حاله كباقي أفراد الشعب الفلسطيني، يرحل عنه أحباؤه دون سابق إنذار في ظل استمرار القصف الاسرائيلي العشوائي للمدنيين وهم في بيوتهم ضاربا عرض الحائط بكل المواثيق الدولية.
ودع أشقاءَه الثلاثة، ووعد زملائه بالعودة للعمل قريبا، لأن الوطن لا زال بحاجة له رغم الفاجعة والألم.