خيمت السحب السوداء المرعبة الناجمة عن قصف الطائرات الاسرائيلية وأمطار القذائف والصواريخ، التي لم تبخل في ان تلون ارض منطقة السموني الواقعة جنوب مدينة غزة باللون الاحمر، الذي لا يسكب الا من قلوب واجساد الاطفال والنساء، لاسيما المسنين. اجواء من الرعب والهلع.و ليس هذا فحسب، وانما قابضو الارواح وعديمو الانسانية لا يبتعدون عن ارواح المدنيين العزل سوى امتار قليلة محصنين بترساناتهم الصلبة وآلياتهم واسلحتهم الثقيلة .
طرقات مدمرة ومحفرة ، اشجار مكسرة ومطلية بالدماء ، منازل تحولت لركام. والابشع من ذلك اجساد وأشلاء الأطفال والنساء ملقاة على جوانب ووسط الطريق، وصرخات المصابين تحت انقاض منازلهم..معدات عسكرية وبقايا الصواريخ وصناديق من الذخائر الفارغة،وجثث الحيوانات والسيارات جعلتها الآليات حصنا بعد تدميرها .
فبعد أن قرر هؤلاء المجرمون ان يسطروا في صفحات التاريخ الاسود اسماءَهم على حساب ارواح واجساد الاطفال واصواتهم التي نادت ببرائتها مسامع العالم اجمع: " اننا نموت ".
نعم انها احدى القصص، التي اقشعرت لها الابدان عندما سقطت كلماتها المزلزلة من افواه من عاشوا باصواتهم المجروحة من عائلة "السموني" التي تقع جنوب مدينة غزة على سامعيها.
ليست كلمات، وحسب، بل انها بعض من الصور التي شهدتها المنطقة، عندما قررت الوحشية الاسرائيلية بشياطينها الآدميين، أن تصب حممها على أحد المنازل في المنطقة أنها قصة من عاش وادرك الصور ... فلا نستطيع ان نتصور ابشع من هذه الصور لنكتبها عن أسر ابيدت باكملها.
فبعد قليل من تهدئة المروعين من افراد عائلة السموني، الذين اخلتهم طواقم ومتطوعو جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني يوم الاربعاء( 7/1/2009) أي بعد اربعة ايام من محاولات دخول المنطقة التي شهدت اول مجزرة في العام الجديد.
تحدث وائل فارس السموني (32 عاما) قائلا:
"كنت اتواجد داخل منزلي انا و اسرتي المكونة من 12 شخصاً بالاضافة الى أسرة أخي الذي إلتجأ الى منزلي قبيل بداية الاحداث. والمنزل عبارة عن طابق ارضي حديث البناء مساحته 180 مترا، و مكون من غرفة واحدة كبيرة بالاضافة الى مظلة و مكان لتربية المواشي .
في يوم السبت الموافق 27122008 بدأت حدة اطلاق النار و القذائف و اصوات الانفجارات بالإزدياد في محيط المنزل و المنطقة، و لم يتمكن احد من الخروج ذلك اليوم. و في صباح اليوم التالي، وفي حوالي الساعة السابعة و النصف فتحت باب المنزل لأرى ماذا يدور حولنا فرأيت عدداً كبيراً من الجنود منتشرين في كل المنطقة، و لم اتأكد ان كانوا جنودا اسرائيليين ام لا ، فحاولت إخبارهم بأن هذا المكان منطقة مدنية ممتلئة بالسكان، كي لا يمارسوا انشطتهم العسكرية هنا فتفاجأت في تلك اللحظة بانهم جنود اسرائيليون حيث نادوني و طلبوا مني الخروج من المنزل و المجئ اليهم فلم استجب لهم و اغلقت باب المنزل فوراً. و بعد مدة بسيطة حضر الى المنزل ابن خالتي حاملا ابنته في حضنه. و قبل وصوله الى باب المنزل استدعاه الجنود الاسرائيليون و طلبوا هويته فاستجاب لهم، و طلبوا منه ان يستدعيني لهم، و ان احضر هويتي فاستجبت، فأخذوا هويتي و هاتفي النقال، و من ثم ارجعوا لي الهوية و صادروا الهاتف. و بعد ذلك جمعوا كافة سكان آل السموني المتواجدين في المنطقة و وضعوهم في منزلي. و كان عدد المتواجدين في المنزل نحو 105 افراد، و لم يكن هناك مايكفي لهذا العدد الكبيرمن المأكل و المشرب حيث تم اطلاق النار على خزانات المياه، و لم يكن في المنزل سوى شوال دقيق و بعض "الطماطم" في الثلاجة، فأعدت والدتي، التي استشهدت بعد ذلك، عدداً من ارغفة الخبز ووزعتها على الموجودين في المنزل. وانقضى يوم الأحد و لم يستطع احد الخروج من المنزل، و ذلك لإستمرار القصف العنيف بالقذائف و الرشاشات الثقيلة. في صباح يوم الاثنين، و حوالي الساعة السابعة تقريبا، تم اطلاق قذيفة مباشرة على المنزل فسقطت على المتواجدين في المنزل مباشرة، فاستشهد على الفور خمسة من افراد العائلة، فدب الرعب في قلوب كل الموجودين، وغطى الدخان الغرفة و تناثرت الاشلاء.
و بعد ثوانٍ قليلة انهالت قذيفة أخرى، و تلاها عدد من القذائف، و حينها و مع الهلع الشديد الذي اصاب المتواجدين، و سقوط الشهداء و الجرحى، تفرقنا و لم نرَ بعضنا البعض، و شرعنا نركض خارج المنزل. و حينها سقطت قذيفة اخرى على الباقين داخل الغرفة فاستشهد ابني فارس و ابنتي رزقة ووالدتي، و خالتي و زوج خالتي طلال و زوجة ابن عمي، مع اربعة من اطفالها، و ابن عمي حمدي و زوجة اخي و ابنتها. و القذائف مازالت تنهال علينا، و نحن لا نرى شيئا بسبب دخان القذائف. و انا اصبت بقدمي بشظية. و رغم ذلك واصلنا الركض خارج المنزل، و نحن مصابين و ننزف، و نرفع الرايات البيضاء، ونستجدي الجنود الاسرائيليين، و استحلفتهم باللغة العبرية كي لا يطلقوا النار علينا، و اخذنا نجري من عند الشركة الهندسية للباطون ( على طريق صلاح الدين عند جامع التوحيد) حتى وصلنا الى مصنع الستار، بمسافة تقدربنحو 1500 متر، و تم إسعافنا بسيارات مدنية كانت تمر بالمكان مصادفة، و تم نقل ثمانية افراد تقريبا في كل سيارة، و بعد تحركها بفترة كانت سيارات الاسعاف قد وصلت الى المنطقة، فنقلونا اليها و توجهوا بنا بعد ذلك الى مستشفى الشفاء. و بعد وصولي الى المستشفى استفسرت عن افراد عائلتي فلم اجد منهم سوى ابني محمد، الذي اصيب في كتفه و يده، و اعتقدت حينها بانه لم يبق من عائلتنا احد حي سوانا. و في اليوم التالي علمت ان زوجتي قد خرجت الاخرى من المنزل مع بناتها الخمس و ولد واحد، و توجهت بهم الى منزل اهلها، فادركت حينها ان اولادي: رزقة و فارس و عبدالله، قد استشهدوا. و بعد مرور اربعة ايام، و بعد وصول الهلال الاحمر الفلسطيني الى المنطقة، وجدوا ابني عبدالله حيا (حمدا لله )و لكن به اصابات متوسطة، و منزلي الذي بنيته حجرا حجرا من عملي البسيط في بيع الخضار انا و ابني فارس، هدم بالكامل. والحمد لله على ما اصابني من استشهاد امي و ابنائي: فارس و رزقة و باقي اهلي من آل السموني و احتسبهم عند الله شهداء".
اما عبدالله وائل السموني (8 سنوات) الذي بقي متواجداً في المنزل، فتحدث الينا قائلا:
"لقد بقيت اربعة ايام انزف انا و اولاد عمي وسط الجثث المترامية بالمكان، ولم اتناول سوى بعض حبات" الطماطم "الملطخة بالدماء ووجبة واحدة من الشعيرية، التي اعدها لنا ابن عمي احمد. و كان الجو باردا جدا و المنزل مدمر من حولنا، و الدجاج يتحرك بين المصابين والجثث وينقرها".
وتحدث محمد نافذ السموني (15 سنة)وهو ابن عم عبدالله قائلا:
"كنا نتواجد انا و عبد الله و ابي، الذي عجز عن الحراك، و ابناء عمي، وكنت اكبرهم سنا ،و جميعنا مصابون وننزف، حيث قمت بربط الجروح بقطع القماش ،وجلبت لهم بعض المياه التي كانت مخصصه للمواشى والدواجن ليشربوا واخذت اجلب اليهم" الطماطم" الملطخة بالدماء من الثلاجة المدمرة، وامسحها لكي اطعم المتواجدين، وجهزت وجبة شعيرية لهم، حيث احضرت الخشب و قمت باشعاله بعدما اخذت الولاعة من ابي، الذي لا يستطيع الحراك بسبب اصابته. وكنت قد اصبت بشظايا في صدري مباشرة، و كنا ننام بين جثث الشهداء التي كانت منتشرة في المنزل على مدار أربعة ايام، وشرعت بعد ذلك بسحب الجثث من زاوية الى زاوية حتى يتسنى لنا النوم على الارض بدلا من النوم على الجثث".
وتحدثت لنا مسعودة صبحي السموني (20سنة)زوجة الشهيد محمد السموني فقالت:"
بعد ان جمعنا الجيش الاسرائيلي ووضعنا في منزل وائل، كان ابني الرضيع جائعاً وعمره 10 شهور، وانا حامل في الشهر السادس ابحث له عن أي شيئ يسد جوعه. واثناء تجولي في المنزل سقطت اول قذيفة، فاستشهد زوجي وابن خالتي و بعض افراد العائلة. وبعد ثوانٍ قليلة سقطت قذيفة ثانية، فرأيت ابني المعتصم بالله، الذي كان في حضني قد اصابته شظايا في جسمه و رأسه قد انحنى الى الخلف وأخذ ينزف، فعلمت حينها انه استشهد و هو بين ذراعي. ورغم ذلك لم اتركه و اخذت احضنه واصرخ، والتفت يمينا و شمالا فوجدت ابني موسى، الذي يبلغ من العمر سنتين قد اصيب بشظية في ظهره، وانا اصبت بكتفي، و مازالت القذائف تنهال علينا. وفي هذه اللحظة فقدت عقلي، ولم ادر ماذا افعل من هول ما يجري حولي. فزوجي ممدد على الارض وابني مات بين ذراعيَ وآخرين ينزفون، وجثث هنا وهناك وقد تطايرت الاشلاء، فاخذت اركض بجنون خارج المنزل، انا ومن تبقى معي من العائلة احياء، ووقعت على الارض ففقدت الوعي وعلمت بعد وصولي الى المستشفى ان افراد عائلتي حملوني في بطانية اعطاها لهم الجيران، ووضعوني في سيارة مدنية حتى وصلت الى (دوار دولة) وفي هذه اللحظة كانت سيارات الاسعاف وصلت الى المنطقة وتم انزالي من السيارة ووضعت في سيارة الاسعاف حيث نقلت الى المستشفى".
إعداد: - غرفة عمليات الطوارئ – قطاع غزةوالمتطوعان: علي الوادية و
مؤيد المسحال.